**المسيرة الخضراء: معركة سلمية لاستعادة الصحراء المغربية**
تُعد المسيرة الخضراء واحدة من أعظم الأحداث الوطنية في تاريخ المملكة المغربية. ففي 6 نوفمبر 1975، خرج ملايين المغاربة من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية في مسيرة سلمية تاريخية نحو الصحراء الغربية، بهدف استرجاع الأراضي التي كانت تحت الاستعمار الإسباني. كانت هذه المسيرة أكثر من مجرد عملية وطنية لاستعادة الأراضي؛ كانت تجسيداً للوحدة الوطنية، والإرادة الشعبية، وحق الشعب المغربي في تقرير مصيره على أرضه.
### **الظروف السياسية والاقتصادية قبل المسيرة الخضراء**
قبل المسيرة الخضراء، كانت قضية الصحراء المغربية واحدة من أكبر التحديات التي واجهها المغرب بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي في 1956. منذ استقلال المغرب، سعى الملك محمد الخامس والقيادة المغربية إلى استعادة كافة الأراضي التي كانت تحت الاحتلال الإسباني، بما في ذلك الصحراء الغربية، التي كانت تُسمى "الصحراء الإسبانية" في ذلك الوقت.
تأزمت الأوضاع في منتصف السبعينيات بعد أن أعلن الحسن الثاني، ملك المغرب آنذاك، عن عزمه استرجاع الصحراء الغربية التي كانت تحت السيطرة الإسبانية. في هذا السياق، جاء إعلان محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 1975، التي أكدت وجود روابط تاريخية بين المغرب ومنطقة الصحراء، وهو ما عزز موقف المغرب في المطالبة بالسيادة على الصحراء الغربية.
ومع ذلك، كان العالم يشهد في تلك الفترة تحديات سياسية كبيرة، حيث كانت القوى الاستعمارية القديمة، مثل إسبانيا، لا تزال تحاول الاحتفاظ بنفوذها في المنطقة. وقد كان من المتوقع أن تكون أي محاولة لاستعادة الصحراء عن طريق القوة العسكرية غير مشروعة دولياً وتؤدي إلى صدامات دموية.
### **إطلاق المسيرة الخضراء**
في 16 أكتوبر 1975، دعا الملك الحسن الثاني في خطاب له الشعب المغربي إلى التعبئة الشاملة من أجل استرجاع الصحراء الغربية، ولكن هذه المرة بطريقة سلمية، وذلك من خلال تنظيم مسيرة ضخمة تضم مئات الآلاف من المغاربة إلى الأراضي الصحراوية التي كانت تحت السيطرة الإسبانية. تم تسميتها بـ "المسيرة الخضراء" نظراً للزي الذي ارتداه المشاركون، والذي كان عبارة عن الملابس التقليدية المغربية ذات اللون الأخضر، رمز السلام والنماء، إضافة إلى حملهم للقرآن الكريم.
**القرار الملكي كان جريئاً ويعكس بعد نظر حقيقي**. حيث اعتمد الملك الحسن الثاني على قوة الشعب المغربي وحماسه الوطني، واستطاع أن يخلق جبهة متماسكة من المواطنين الذين كانوا على استعداد تام للمشاركة في هذه المسيرة الضخمة. كانت المسيرة الخضراء بمثابة رد سياسي قوي على ضغوط القوى الدولية الراغبة في منع المغرب من استعادة صحرائه، في الوقت الذي كانت فيه القوى الاستعمارية تحاول الحفاظ على مصالحها في المنطقة.
### **مشاركة الشعب المغربي في المسيرة الخضراء**
في 6 نوفمبر 1975، بدأت المسيرة الخضراء في مدينة "العيون" بالصحراء الغربية، وهي المدينة التي تعتبر مركز المنطقة. ما لا يقل عن 350,000 متطوع مغربي من جميع أنحاء المملكة، بما في ذلك الشباب، النساء، الأطفال، والشيوخ، شاركوا في المسيرة.
الصور التي تم توثيقها من ذلك اليوم تُظهر مشاهد لا تُنسى: حشود ضخمة من المتظاهرين يسيرون في تماسك وتضامن، يحملون الأعلام المغربية والقرآن الكريم، يسيرون باتجاه المناطق الصحراوية التي كانت تحت الاحتلال الإسباني. تم تنظيم المسيرة بطريقة سلمية تماماً، مما جعلها مظهراً رائعاً للوحدة الوطنية ورفض العنف.
### **التفاوض مع إسبانيا والمجتمع الدولي**
رغم الحشود الهائلة والتعبئة الوطنية، كانت المسيرة الخضراء تعتمد على استراتيجية سلمية وليس عسكرية. وهذا ما جعلها محط إعجاب وتقدير على الصعيدين الوطني والدولي. وقبل أن تصل الحشود إلى المناطق الصحراوية، بدأت التفاوضات بين السلطات المغربية والحكومة الإسبانية برعاية الأمم المتحدة. كانت إسبانيا في ذلك الوقت تواجه تحديات داخلية، وكان من الواضح أن قيادة النظام الإسباني كانت ترغب في إيجاد حل سلمي للقضية تجنباً لتصعيد الصراع.
في 14 نوفمبر 1975، تم التوصل إلى اتفاق بين المغرب وإسبانيا من خلال "اتفاقية مدريد"، التي نصت على انسحاب القوات الإسبانية من الصحراء الغربية وتسليمها إلى الإدارة المغربية والموريتانية، وهو ما مهد الطريق لاستعادة المغرب سيادته على الصحراء الغربية.
### **النتائج والتأثيرات التاريخية**
كانت المسيرة الخضراء بداية مرحلة جديدة في تاريخ المغرب، حيث استطاع الشعب المغربي أن يحقق أكبر إنجاز سياسي في تاريخه المعاصر. لم تقتصر النتائج على استعادة الصحراء الغربية فحسب، بل ساهمت أيضاً في تعزيز وحدة الشعب المغربي، حيث أصبحت المسيرة الخضراء رمزاً للملحمة الوطنية التي جمعت بين مختلف فئات المجتمع المغربي.
على المستوى الدولي، أثبتت المسيرة الخضراء للعالم أن المغرب قادر على تحقيق أهدافه عبر الوسائل السلمية والتفاوضية، مما جعلها تحظى بتقدير واسع من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. كما كانت المسيرة الخضراء إعلاناً للمغرب عن موقفه الثابت في الحفاظ على وحدة ترابه الوطني وعدم التنازل عن سيادته على صحرائه.
### **المسيرة الخضراء في الذاكرة الجماعية للمغاربة**
اليوم، تُعتبر المسيرة الخضراء واحدة من أعياد المغرب الوطنية، حيث يُحتفل بها سنوياً في 6 نوفمبر. وقد أصبحت هذه المناسبة أكثر من مجرد ذكرى لاسترجاع الأرض، بل هي رمز للتضحية، للوحدة الوطنية، وللإصرار على الحق في تقرير المصير. الطلاب، والعمال، والمواطنون على حد سواء، يحتفلون بهذا اليوم الذي يُجسد أسمى معاني الوطنية.
يعتبر المغاربة أن المسيرة الخضراء هي اللحظة التي أظهر فيها الشعب المغربي قوته وصلابته في مواجهة التحديات، كما أن التاريخ يحتفظ بهذه المناسبة كدليل على قدرة الشعب على تحقيق أهدافه من خلال الوحدة والإرادة.
### **خاتمة**
في الختام، تظل المسيرة الخضراء حدثاً ملهماً في التاريخ المعاصر للمغرب. إنها لحظة تاريخية فارقة، عبّرت عن نضج الشعب المغربي في نضاله السلمي لاستعادة أراضيه، وأظهرت كيف يمكن للوحدة الوطنية أن تكون سلاحاً قوياً في مواجهة التحديات. إن المسيرة الخضراء لا تمثل مجرد خطوة لاسترجاع الصحراء، بل هي تأكيد على قيم التضحية والإخلاص للوطن، وعلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه المقاومة السلمية في تحقيق الأهداف السياسية الكبرى.
إذا كانت المسيرة الخضراء قد أسفرت عن استعادة الأراضي، فإنها في الوقت ذاته أسست لعلاقة قوية بين المغرب وصحرائه، ووضعت الأساس لمستقبل تتوحد فيه جميع القوى الوطنية خلف هدف مشترك: الحفاظ على السيادة الوطنية واستكمال بناء الوطن المتقدم.